تابـــــــــــــــــــــــــــع
وظاهرة التكرار هذه تنم على نزعة لبيد في التفخيم والمبالغة. وكأنه لا يكتفي بالتشبيه الواحد فيثنيه ليعبر عن الصورة الطبيعية الواحدة كالأطلال وبقاياها أو الغبار الذي يثيره العير والأتان بأشكال فنية متعددة.
وتبلغ هذه النزعة أوجها في وصفه للناقة وسرعتها في استطرادات واستدارات وصفية وتشبيهية.
تصور الظاهرة الطبيعية الواحدة بصيغ فنية متعددة:
فيشبه الناقة أولاً بالسحابة الحمراء التي خف ماؤها.
ثم يشبهها بأتان الوحش التي يطاردها فحلها.
ويثلث بتشبيهها بالظبية التي يروّعها الصياد.
فيستهل وصف الناقة كما ترى بالتشبيه المفرد، ثم يثني على ذلك بالاستطراد الوصفي المطول, ويثلث بالاستدارة التشبيهية القصصية.
يقول العرب: "إنّ البلاغة الإيجاز" فأي الإيجاز في أسلوب لبيد؟ هل هو في العبارة المفردة فقط؟ وكيف يخرج لبيد من الإيجاز إلى التكرار والاستطراد بما يشبه الإسهاب في الكلام على الموضوع الواحد والإسهاب كما نعلم من أساليب العباسيين لا الجاهليين.
هل يُتخذ ذلك حجة على الإضافات إلى شعر لبيد أم أن نزعة لبيد إلى التفخيم والمبالغة هي التي تقوده إلى هذا التكرار والاستطراد، فكأن الشكل الفني الواحد لا يشفي غله, فيلجأ إلى الأشكال المتعددة في الدائرة الواحدة. وهل يطعم لبيد الشعر بشيء من السرد الذي هو من صفات القص في البادية.
لكن ظاهرة التذييل التي تكثر وتبرز في معلقة لبيد هي التي تدفعنا إلى قراءتها قراءة جديدة.
يرد في معلقة لبيد أبيات مذيلة. تتعدد حتى لتكاد تشكل ظاهرة بارزة في المعلقة, تختلف عن بنية التعبير كما عرفناها في المعلقات الجاهلية. والتذييل كما عرفه التبريزي في كتابه "الوافي في العروض والقوافي" "هو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد بعينه، حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكد لمن فهمه".
ويمثل لذلك بأمثلة منها قول ربيعة بن مقروم الضبي:
فدَعَوا نزالِ فكنتُ أوّلَ نازل
وعلامَ أركبُه إذا لم أنزل
إلا أن التذييل في أبيات لبيد يتخذ طابع الحكمة التي ترمي إلى العبرة، ويُخيل إلي: أن بينه وبين التذييل الذي يكثر في التنزيل الحكيم آصرة نسب إذ ينزع في مجمله نزعة الحكمة كما في قوله:
فاقطع لبانة من تعرض وصله
ولشر واصل خلّة صرّامها
***
رجعا بأمرهما إلى ذي مرة
حصِد، ونجح صريمة إبرامها
***
صادفن منها غرة فأصبنها
إن المنايا لا تطيش سهامها
***
لتذودهن وأيقنت إن لم تزد
أن قد أحم من الحتوف حمامها
***
أو لم تكن تدري نوار بأنني
وصّال عقد حبائل جذّامها
***
من معشر سنت لهم آباؤهم
ولكل قوم سنة وإمامها
***
فاقنع بما قسم المليك فإنما
قسم الخلائق بيننا علامها
والسؤال الذي يجب أن يطرح هنا، هل التذييل ظاهرة فنيّة جاهلية؟! أم أنه ظاهرة قرآنية؟!
قد يكون التذييل من ابتكارات لبيد التقنية ونحن لا نماري في إمكانية هذا الأمر.
لكن لماذا يذيل لبيد الكثير من أبياته ولا يفعل ذلك زهير أو طرفه اللذان اشتهرا بالحكمة أيضاً.
من يعتقد أن المعلقة جاهلية وأن لبيداً في زعم الرواة لم يقل غير بيتين مفردين في الإسلام هما:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
***
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى لبست من الإسلام سربالا
وكلاهما واضح النبرة الإسلامية في معناه ومبناه وصورته واستعارته. ونحن نميل إلى القول إنّ التذييل في معلقة لبيد ظاهرة فنية أصيلة, فإما أن تكون تقليداً للظاهرة القرآنية في الأسلوب وتمت في مرحلة الإسلام. أو أن تكون سابقة له كظاهرة فنية لكننا نستعبد أن تكون أبياته الإسلامية من صنع الشريحة التقية جرياً على قياس طه حسين في النحل هناك قصائد من العصر الإسلامي تحفل بالتذييل مثل قصيدة عمر بن أبي ربيعة:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد!!
***
ولقد قالت لجارات لها
وتعرت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني
عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلت لها
حسن في كل عين من تود
حسد حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
إلا أن التذييل عند عمر مقتبس من أسلوب التنزيل الحكيم فهل يكون لبيد المخضرم من الذين اقتبسوا هذه الظاهرة القرآنية أيضاً؟!
تقول لنا المرويات إنّ لبيداً أتى بصحف فيها سورة البقرة عندما سئل عن جديده في الشعر، وقال بما معناه إن ما في الصحف من الذكر الحكيم يكفيه الشعر، ولكن هذه المرويات تقول لنا أيضاً أنه لم يقل غير بيتين في الإسلام أسلفناهما فيما سبق.
هذا التناقض في المرويات. وهذا الأسلوب الإسلامي البارز في التصوير الفني للبيتين يلقي لنا ضوءاً على المقطع الأخيرة من المعلقة الذي يبدو لنا إسلامياً في محتواه وشكله صوراً ومصطلحاً ولغة:
يقول لبيد:
من معشر سنت لهم آباؤهم
ولكل قوم سنة وإمامها
لا يطبعون ولا يبور فعالهم
إذ لا يميل مع الهوى أحلامها
فاقنع بما قسم المليك فإنما
قسم الخلائق بيننا علامها
وإذا الأمانة قسمت في معشر
أوفى بأوفر حظنا قسامها
إن مصطلحات سن سنة وإمامها، والهوى، هي إسلامية وكذلك المليك والعلام والقسام وهي من الأسماء الحسنى للفظ الجلالة.
فالمسألة في معلقة لبيد إذن ليست مسألة ظاهرة فنية كالتذييل الذي يكثر ويتعدد في المعلقة، بل يتعدى ذلك إلى مفاهيم إسلامية بعينها يستبعد بعضهم أن يكون لبيد السابق إليها بهذا الوضوح وهذا التميز الذي لا يفارق صوت الإسلام ونبرته. ويرى آخرون إسراع لبيد إلى الإسلام دلالة على نزعة حنيفية واضحة جاء الإسلام ليكشف عنها ويؤكدها.
يعتقد المستشرق الفرنسي "كليمانت هوارت" أن الشعر الجاهلي بما فيه من قصص الأنبياء كقصة الطوفان نوح والحمامة وقصة صالح والناقة وغيرهما، لعب دور الوسيط بين الكتب الدينية المقدسة التي سبقت القرآن زمنياً، كالتوراة والإنجيل والنسق القرآني الجديد. إلا أننا نلاحظ أن قصة صالح والناقة ليست توراتية بل هي عربية المصدر، وتتصل بتاريخ العرب قبل الإسلام. وان الإسلام قد استوعب ديانات التوحيد التي جاءت قبله كما استوعب الحضارات ومعارفها. أما موقف طه حسين فيعكس مقولة "كليمانت هوارت" فيجعل الشعر الذي يحوى هذا القصص كشعر أمية بن أبي الصلت وغيره مستمداً من القرآن الكريم بعد ظهور الإسلام لا قبله ويجعل ذلك برهاناً قاطعاً على نحل مثل هذا الشعر لأسباب دينية. وكذلك الجاحظ في كلام له عن عدي بن زيد العبادي يذكر تأثره بالكتب الدينية لأنه كان على النصرانية وهذا في رأينا يستحق التمحيص والتحري لأنه يحرم العرب من القدرة على تصورات دينية متقدمة وقد تجسدت في الحنيفيّة تجسداً واضحاً وهي حقيقة تاريخية لكن طه حسين ومارجليوث على اختلافهما في طرق الاستدلال على قضية النحل في الشعر الجاهلي يتفق موقفهما على إنكار الشعر الجاهلي ورفضه لكونه على ما يعتقد أن من صنع الرواة الإسلاميين على طراز نماذج شعرية جاهلية معدلة بما يتفق مع الطابع الإسلامي([3]).
كما يحلو لبعض المستشرقين أن يؤكد على فكرة السابق، أي على المعتقدات الدينية في الجاهلية التي مهدت للإسلام كالحنيفية وغيرها كما مهد يوحنا أي يحيى للسيد المسيح. فهل يمكن القول أن التذييل كظاهرة فنية في شعر لبيد وما في هذا الشعر من مصطلحات إسلامية هو من هذا القبيل؟!
المسألة هنا ليست مسألة قصص عبراني أو نصراني وجد سبيله إلى الإسلام لوحدة الوحي لأن الأديان التوحيدية كلها من عند الله. بل نحن هنا في حضرة مفاهيم متميزة لا يمكن عزلها عن سياقها الحضاري والديني ولا يمكن أن تنشأ في غير مناخه ورحمه، فالسنة والإمام والمليك والعلام إلخ. لا يمكن أن تخون أصولها الإسلامية وكذلك التذييل كظاهرة أسلوبية.
ومع ذلك فنحن نعتقد أن معلقة لبيد في أغلبيتها جاهلية في موضوعاتها ولغتها وصورها الفنية وإيقاعاتها الصوتية. وهي أكثر جاهلية من غيرها لتميز لغتها البدوية، وفنها الشعري وخاصة في وصف الناقة واستداراتها التي تنسجم مع النموذج الجاهلي. ولأنها وصلت إلينا عبر قنوات استمرت في الإسلام وصاحبها من المخضرمين الذين امتدت حياتهم إلى العصر الإسلامي.
وينجم عن ذلك كله سؤال مؤرق هل أضاف لبيد أو غيره من الرواة هذه الأبيات التي تشكل قضية بارزة في المعلقة على الأصل الجاهلي, أو نقح ما نقح. وصقل ما صقل من الأبيات الأخرى بما يوافق البيان القرآني الحكيم في مصطلحه ولغته وبعض صوره الفنية.
وأن المعلقة ظلت نصاً مفتوحاً لم يكتمل إلا باكتمال حياة لبيد الشاعر المخضرم الذي عاش العصرين الجاهلي والإسلامي فكان لا بد لروح هذين العصرين من أن يتجليا في شعره بما فيه المعلقة ـ وهذا لعمري أكثر معقولية من الرأي القائل بلبيد كسابق للعقيدة الإسلامية والتي أرهص شعره ببعض مبادئها فلما جاء الإسلام بادر إلى الإيمان به لاستعداده النفسي المسبق لهذا الإيمان.
أياً ما كان الأمر، يعجبنا من معلقة لبيد أن يقف الإنسان صامداً رغم تغير المكان والحياة من حوله، ولعله يوحي لنا ذلك حين يصف لنا انتصار الظبية الفريسة على الكلاب المطاردة إذ تقتل واحداً منها وتترك الآخر جريحاً في المكر بعد أن تنفذ قرنها السمهري فيه. كما تجلّى لنا أصداء فخره وكرمه وتماسكه أمام رحلة نوار مثل هذا الصمود عندما يترك الإنسان وحيداً بعد ارتحال الأحبة.
الإنسان والطبيعة هذان هما المحوران اللذان يدور عليهما شعر لبيد رغم نبرة الفخر والفخامة اللذين يُوحيان بالبداوة. إننا ما نزال نسمع في شعر البادية اليوم الأصداء عينها التي حكاها لبيد، في شعر الجاهلية، خاصة في الشعر النبطي فالمعلقة ببنيتها العروضية المركبة بالقافية الظاهرة التي تلتزم ثلاثة حروف مؤسسة بحرف المد [آمها] تنتهي أيضاً بحرف المد فيأتي صوت الميم والهاء بين هذين الألفين المطلقتين في فخامة وقوة. ثم إن لبيداً يؤسس لهذه القافية الظاهرة بقافية خفية داخلية تأتي مباشرة قبلها، وتتكون من تناغم الصيغ وتناسبها لا توافق الحروف كما في قوله (محلها فمقامها, غولها فسجامها، حلالها وحرامها إلخ).
ويعكس لنا صوت القصيدة العام وهي من الكامل إيقاع دقات المهباج على حين الكامل في شعر عنترة يحكي خبب الخيل ووقع حوافرها.
خاتمــــة:
ومع أننا نعترف في خاتمة هذه الدراسة لنص المعلقة أن مسألة السابق مسألة تاريخية استنتجها الدراسون وأنها تحتاج إلى إطلالة جديدة بحثاً وتمحيصاً إلا أنها تؤكد أن ظاهرة التذييل الأسلوبية التي كثرت في معلقة لبيد وقادتنا إلى ما قادتنا إليه من استنتاجات لم تكن شائعة في الشعر الجاهلي ونلاحظ أنها تفردت في تلك المعلقة من بين المعلقات جميعاً مما يؤكد موقفنا واجتهادنا بالدلالات التي أنطناها بهذه الظاهرة.
على عكس ظاهرة الاستدارة التشبيهية التي تجدها في عدد وافر من المعلقات وقدرٍ كبيرٍ من قصائد الجاهليين (طرفة وعنترة والنابغة على سبيل المثال وأستاذنا شكري فيصل كان قد درس هذه الظاهرة وخدم قضيتنها خدمة أكاديمية رائدة. أما التذييل فلم يلتفت إليه النقاد في الشعر الجاهلي لأنه خلاف لشعر لبيد غير موجود, ولأن التذييل ظاهرة قرآنية تسللت إلى الشعر ممّا دفعنا إلى دراسة ذلك في هذه الدراسة المتواضعة.
--------------------------------------------------------------------------------
* باحث سوري جامعي.
([1]) يذهب المستشرق (Clement Huart) في مقالته التي بعنوان: "Une novvell sourcede de quran" التي نشرها في مجلة "Journal Asiatique" في سنة 1904 صفحة 125 ـ 167 بأن شعراء القرى ولا سيما أمية ابن أبي الصلت وآخرين لعبوا دور السابق للمعتقدات الإسلامية الجديدة بما حملته أشعارهم من مفاهيم وأفكار التراث التوراتي المسيحي. والإسلام كآخر دين توحيدي ولد في ضوء التاريخ يجاهر بإيمانه بأن اله واحد لكل العالمين والوحي واحد. والرسل وكتبهم المنزلة كلهم من عند الله.
إلا أن كليمانت هوّارت وغيره من المستشرقين لا يتكلمون عن سياق الديانات التوحيدية اليهودية والمسيحية والإسلام وحده بل يرون أن كل الأفكار الدينية العظيمة في تاريخ الأديان كان لا بد لها من ممهد وسابق لأنها لا تخرج من رحم التاريخ كلاً واحداً وبناء متكاملاً قبل أن يكون السابق من فكر وغيره قد مهد لها هذا الظهور.
([2]) انظر شرح المعلقات السبع للزوزني، دار الجيل، دون تاريخ، لبنان، ص 124 ـ 162.
([3]) Margoliouth, D. S. "The origins of Arabic poetry royal asiatic society Journal 1925, p p 417- 449.
أكثر من ناقد أشار إلى تأثر طه حسين في الشعر الجاهلي بـ مارغليوث في مقالته هذه, لكن قراءتنا الجديدة لمعلقة لبيد تذهب في مسار آخر.